الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثالثة:دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله، وأن من قال: يجوز أن يموت قبل أجله فمخطىء.فإن قالوا: هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا} على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم.قلنا: قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا} إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل، فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول: إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت، فوجب أن يكون الحكم هاهنا كذلك، والله أعلم.{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته.فالشبهة الأولى: أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون، وفيه احتمالات: الأول: أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون، والدليل عليه قوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ} [القلم: 51، 52]، وأيضًا قوله: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184].والثاني: أنهم كانوا يستبعدون كونه رسولًا حقًا من عند الله تعالى، فالرجل إذا سمع كلامًا مستبعدًا من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل، وقوله: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في هذه الآية يحتمل الوجهين.أما قوله: {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} ففيه وجهان: الأول: أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، وكما قال قوم شعيب: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87]، وكما قال تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]. لأن البشارة بالعذاب ممتنعة.والثاني: {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} في زعمه واعتقاده، وعند أصحابه وأتباعه.ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} وفيه مسألتان:المسألة الأولى:المراد لو كنت صادقًا في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة، لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر، وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعًا، وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي، ويكون في محل الشكوك والشبهات، فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود، فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني، وإنزال الملائكة الذين يصدقونك، ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعًا، والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات، فلو كنت صادقًا في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء، فهذا تقرير هذه الشبهة، ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الأمر} [الأنعام: 8]، وفيه احتمال آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به، فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة} الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب الموعود، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53].ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} فنقول: إن كان المراد من قولهم: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة} هو الوجه الأول، كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم، وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثًا باطلًا، ولا يكون حقًا، فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى، وقال المفسرون: المراد بالحق هاهنا الموت، والمعنى: أنهم لا ينزلون إلا بالموت، وإلا بعذاب الاستئصال، ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة، فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة، وأما إن كان المراد من قوله تعالى: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة} استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به، فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال، وحكمنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نفعل بهم ذلك، وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم، ومن إيمان أولاد الباقين.المسألة الثانية:قال الفراء والزجاج: لولا ولوما لغتان: معناهما: هلا ويستعملان في الخبر والاستفهام، فالخبر مثل قولك لولا أنت لفعلت كذا، ومنه قوله تعالى: {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]، والاستفهام كقولهم: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]، وكهذه الآية.وقال الفراء: لوما الميم فيه بدل عن اللام في لولا، ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، وحكى الأصمعي: خاللته وخالمته إذا صادقته، وهو خلى وخلمي أي صديقي.المسألة الثالثة:قوله: {مَا نُنَزّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {مَا نُنَزّلُ} بالنون وبكسر الزاي والتشديد، والملائكة بالنصب لوقوع الإنزال عليها.والمنزل هو الله تعالى، وقرأ أبو بكر عن عاصم: {مَا تُنَزَّلَ} عن فعل ما لم يسمى فاعله، والملائكة بالرفع. والباقون: ما تنزل الملائكة على إسناد فعل النزول إلى الملائكة، والله أعلم.المسألة الرابعة:قوله: {وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} يعني: لو نزلت الملائكة لم ينظروا أي يمهلوا فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة. قال صاحب النظم: لفظ اذن مركبة من كلمتين: من إذ وهو اسم بمنزلة حين ألا ترى أنك تقول: أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني. ثم ضم إليها أن، فصار إذ أن.ثم استثقلوا الهمزة، فحذفوها فصار إذن، ومجيء لفظة إذن دليل على اضمار فعل بعدها والتقدير: وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا وهذا تأويل حسن. اهـ.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: {ما تنزل الملائكة} بفتح التاء والرفع وقرأ عاصم- في رواية أبي بكر- {ما تُنزلُ} بضم التاء والرفع، وهي قراءة يحيى بن وثاب، وقرأ حمزة والكسائي وحفص {ما ننزلُ} بنون العظمة- {الملائكةَ} بالنصب، وهي قراءة طلحة بن مصرف.وقوله: {إلا بالحق} قال مجاهد: المعنى: بالرسالة والعذاب.قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن معناه: كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي رآها الله لعباده، لا على اقتراح كافر، ولا باختيار معترض.ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في إثرها إن لم يؤمنوا. فكأن الكلام: ما تنزل الملائكة إلا بالحق وواجب، لا باقتراحكم؛ وأيضًا فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب، أي تؤخروا، والنظرة: التأخير، المعنى: فهذا لا يكون، إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن. اهـ.
قال المفسرون: إِنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه، وأن الله أرسله، فأجابهم الله تعالى بقوله: {ماتُنزَّلُ الملائكة إِلا بالحق} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر {ما تَنزَّلُ} بالتاء المفتوحة {الملائكةُ} بالرفع، وروى أبو بكر عن عاصم {ما تُنزَّل} بضم التاء على ما لم يُسم فاعله.وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخَلَف {ما نُنِّزل} بالنون والزاي المشددة {الملائكةَ} نصبًا.وفي المراد بالحق أربعة أقوال:أحدها: أنه العذاب إِن لم يؤمنوا، قاله الحسن.والثاني: الرساله، قاله مجاهد.والثالث: قبض الأرواح عند الموت، قاله ابن السائب.والرابع: أنه القرآن، حكاه الماوردي.قوله تعالى: {وما كانوا} يعني: المشركين {إِذًا مُنظَرين} أي: عند نزول الملائكة إِذا نزلت. اهـ.
يريد لولا الحياء.وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد.وأنشد أهل اللغة على ذلك: أي هلا تعدون الكمِيّ المقنعا.{مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)} قرأ حفص وحمزة والكسائي {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو بكر والمفضل {ما تُنَزَّل الملائكةُ}، الباقون {ما تَنَزَّلُ الملائكةُ} وتقديره: ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفًا، وقد شدّد التاء البَزِّي، واختاره أبو حاتم اعتبارًا بقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} [القدر: 4].ومعنى {إِلاَّ بالحق} إلا بالقرآن.وقيل بالرسالة؛ عن مجاهد.وقال الحسن: إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا.{وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة.وقيل: المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظَرُوا.وأصل {إذًا} إذْ أن ومعناه حينئذ فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها. اهـ.
|